فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

سورة الغاشية:
{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية (1)}
الكلام في {هَلْ} هنا، كالكلام في {هَلْ} التي في أول سورة الإنسان، أنها استفهامية أو أنها بمعنى قد؟
ورجّح أبو السعود وغيره أنها استفهامية للفت النظر وشدة التعجب والتنويه، بشأن هذا الحدث، وهو مروي عن ابن عباس قال: رضي الله عنه: (لم يكن أتاه فأخبره به) و{حديث الغاشية} هو خبرها الذي يتحدث عنها.
والغاشية قال أبو حيان: أصلها في اللغة: الداهية تغشى الناس، واختلف في المراد بها هنا، فقيل: يوم القيامة.
وقيل: النار. واستدل كل قائل بنصوص. فمن الأول قوله: {يوم يَغْشَاهُمُ العذاب} [العنكبوت: 55].
قال الفخر الرازي. وإنما سميت القيامة بها الاسم، لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له، والقيامة كذلك من وجوه. الأول، أنها ترد على الخلق بغتة، وهو كقوله: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عذاب الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107].
والثاني: أنها تغشى الناس جميعاً من الأولين والآخرين.
والثالث: أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد.
ومن استدلالهم على أنها النار، قوله تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50].
وقيل {الغاشية}: أهل النار يغشونها أي يدخلونها، فـ: {الغاشية} كالدافة في حث الأضاحي.
وقال الطبري: والراجح عندي أن الله تعالى أطلق ليعم، فيجب أن تطلق ليعم أيضًا.
والذي يظهر رجحانه والله تعالى أعلم: أنها في عموم القيامة وليس في خصوص النار، فالنار من أهوال ودواهي القيامة، وهو ما يشهد له القرآن في هذا السياق من عدة وجوه، ومنها: أنه جاء بعدها قوله: {وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة} [الغاشية: 2]، ويوم للقيامة منه للنار.
ومنها: التصريح بعد ذلك، بأن من كانت تلك صفاتهم {تصلى ناراً حامية}، مما يدل على أن {الغاشية} شيء آخر سوى النار الحامية.
ومنها: أن التعميم ليوم يشمل جميع الخلائق، وهو الأنسب بالموقف، ثم ينجي الله الذين اتقوا.
وقد بين الله تعالى قسيم هذا الصنف، منا يدل على أن الحديث المراد إلغاؤه، إنما هو عن حالة عموم الموقف.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نَاراً حامية} الآيات.
اتفقوا على أن يومئذٍ، يعنى يوم القيامة.
وقال ابن حيان: والتنوين فيه تنوين فيه تنوين عوض. وهو تنوين عوض عن جملة، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التوين عوضاً عنها، ولكن لما تقدم لفظ {الغاشية}.
وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتي غشيت أي الداهية التي غشيت، فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ {الغاشية} إليها، وإلى الموصول الذي هو التي، وهذا مما يرجح ويؤيد ما قد قدمناه، من أن {الغاشية} هي القيامة. {وجوه يومئذٍ خاشعة}، بمعنى ذليلة.
قال أبو السعود: وهذا وما بعده وقع جواباً عن سؤال، نشا من الاستفهام التشويقي المتقدم، كأنه قيل من جانبه صلى الله عليه وسلم ما أتاني حديثها، فأخبره الله تعالى. فقال: {وجوه...} إلخ.
قال: ولا بأس بتنكيرها لأنها في موقع التنويع، أي سوغ الابتداء بالنكرة كونها في موقع التنويع: وجوه كذا، ووجوه كذا.
و{خاشعة}: خبر المبتدأ، أي وما بعده من صفاتهم.
وقوله: {عاملة ناصبة} العمل معروف، والنصب: التعب، وقد اختلف في زمن العمل والنصب هذين، هل هو كان منها في الدنيا، منهم من قال: عمل ونصب في العبادات الفاسدة كعمل الرهبان والقسيسين والمبتدعة الضالين، فلم ينفعهم يوم القيامة، أي كما في قوله: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23].
ومنهم من قال: عمل ونصب والتذ، فيما لا يرضى الله، فعامله الله بنقيض قصده في الآخرة، ولكن هذا الوجه ضعفه ظاهر، لأن من هذه حالهم لا يعدون في عمل ونصب بل في متعة ولذة.
والذين قالوا: سيقع منهم بالفعل يوم القيامة، اتفقوا على أنه عمل ونصب في النار من جر السلاسل، عياذا بالله. وصعودهم وهبوطهم الوهاد والوديان، أي كما في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17]، وقوله: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً} [الجن: 17].
وقد ذكر الفخر الرازي تقسيماً ثلاثياً، فقال: إما أن يكون ذلك كله في الدنيا أو كله في الآخرة، أو بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة، ولم يرجح قسماً منها إلا وجه القول بأنها في الدنيا وهي في القسيسين، ونحوهم. فقال: لما نصبوا في عبادة إله وصفوه بما ليس متصفاً به، وإنما تخيلوه تخيلاً أي بقولهم {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]، فكانت عبادتهم لتلك الذات المتخيلة لا لحقيقة الإله سبحانه.
ولا يبعد أن يقال على هذا الوجه: إن من كان ممن لا ينطق بالشهادتين ويعمل على جهالة فيما لا يعذر بجهله أن يخشى عليه من هذه الآية، كما يخشى على من بعمل على علم، ولكن في بدعة وضلالة.
ومما لا يشهد للأول حديث المسيء صلاته. ولأثر حذيفة: رأى رجلاً يصلي فطفق فقال له: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين سنة. قال له: ما صليت منذ أربعين سنة ولو مت على ذلك، مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث الواردة في ذلك على سبيل العمومات مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمري فهو رد» أي مردود.
وحديث الحوض «فيذاد أقوام عن حوضي، فأقول: أمتي، أمتي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك إنهم غيَّروا وبدَّلوا».
ونحو ذلك مما يوجب الانتباه إلى صحة العمل وموافقته لما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك القسم الثاني كما في قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-104] الآية.
أما الراجح من القولين في زمن {عاملة ناصبة} أهو في الدنيا أم في الآخرة؟ فإنه القول بيوم القيامة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة، والأدلة على ذلك من نفس السياق.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد جدًّا في هذا الترجيح، ولم أقف على قول لغيره أقوى منه، نسوق مجمله للفائدة:
قال في المجموع في تفسير هذه السورة بعد حكاية القولين: الحق هو الثاني لـ: {وجوه}، وساق سبعة وجوه:
الأول: أنه على القول الثاني يتعلق الظرف بما يليه، أي وجوه يوم الغاشية، خاشعة عاملة ناصبة صالية.
أما على القول الأول فلا يتعلق إلاَّ بقوله: {تصلى}. ويكون قوله: {خاشعة} صفة للوجوه، قد فصل بينها وبين الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى. والتقدير: وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذٍ تصلى ناراً حامية، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه، والتقديم والتأخير، إنما يكون مع قرينة.
والثاني: أن الله ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة بعد ذلك {وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة لِّسَعْيِهَا راضية فِي جَنَّةٍ عالية} [الغاشية: 8-10]، أي في ذلك اليوم، وهو يوم الآخرة: فالواجب تناظر القسمين أي في الظرف. الثالث: أن نظير هذين القسمين ما ذكر في موضع آخر في قوله: {وُجُوهٌ يومئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يومئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22-25]، وفي موضع آخر في قوله: {وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عليها غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38-42]، وهذا كله وصف للوجوه في الآخرة.
الرابع: أن المراد بالوجوه أصحابها لأن الغالب في القرآن وصف الوجوه بالعلامة كقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، وقوله: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، وهذا الوجه لم تتضح دلالته على المقصود.
الخامس: أن قوله: {خاشعة عاملة ناصبة}، لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم، فإن هذا إلى المدح أقرب، وغايته أنه وصف مشترك بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين، والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص، لقيل: {خاشعة} للأوثان مثلاً، {عاملة} لغير الله، {ناصبة} في طاعة الشيطان، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقاً ولا وعيد عليه، فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن، وهذا الوجه من أقواها في المعنى وأوضحها دلالة.
وقد يشهد له أن هؤلاء قد يكون منهم العوام المغرورون بغيرهم، ويندمون غاية الندم يوم القيامة على اتباعهم إياهم، كما في قوله تعالى: {وَقال الَّذينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29].
السادس: وهو مهم أيضًا، أنه لو جعل لهم في الدنيا لكان خاصاً ببعض الكفار دون بعض، وكان مختصاً بالعباد منهم، مع أن غير العباد منهم يكونون أسوأ عملاً ويستوجبون أشد عقوبة.
السابع: أن هذا الخطاب لو جعل لهم في الدنيا لكان مثله ينفر من أصل العبادة والتنسك ابتداء، أي وقد جاءت السنة بترك أصحاب الصوامع والمتنسكين دون التعرض لهم بقتل ولا قتال، كما أنها أقرت أصحاب الديانات على دياناتهم، مما يشعر باحترامه أصل التعبد لعموم الجنس، كما أشار رحمة الله تعالى عليه.
وقد أوردنا مجمل كلامه رحمه الله، لئلا تتخذ الآية على غير ما هو الراجح فيها، أو يحمل السياق على غير ما سيق له، وقد ختم كلامه بتوجيه لطيف بقوله: ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة، وليس في الخطاب تقييد، كان هذا سعياً في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه اهـ.
ومن الذي يعطي نفسه حق إصلاح الخطاب في كلام رب العالمين، إنها لفتة إلى ضرورة ومدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن، الذي نهجه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن.
وقد بدا لي وجه آخر، وهذا لو جعل هذا العمل الكفار والمبتدعة، لكان منطوقه أن العذاب وقع عليهم مجازاة على عملهم ونصبهم في عبادتهم تلك، والحال أن عذاب الكفار عموماً إنما هو على ترك العمل لله وحده، وعقاب المبتدعة فيما ابتدعوه من ضلال، فإذا كان ما ابتدعوه لا علاقة له بأركان الإسلام ولا بالعقيدة، وإنما هو في فروع من العبادات ابتدعوها لم تكن في السنة، فإنهم وإن عملوا ونصبوا فلا أجر لهم فيها، ولا يقال: إنهم يعذبون عليها بطل ذلك المذكور مع سلامة العقيدة في التوحيد، والقيام بالواجب في أركان الإسلام، إذ العذاب المذكور ليس مقابلاً بالعمل والنصب المذكور، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {تسقى مِنْ عين آنية}.
قيل: حاضرة، ويل: شديدة الحر، وهذا الأخير هو ما يشهد له القرآن في قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]، ومعلوم أن الحميم شديد الحرارة، كما أن حملها على معنى حاضرة لم يكن فيه بيان معنى ما في تلك العين من أنواع الشراب المعد والمحضر لهم، وفي المعجم حميم آن: قد انتهى حره، والفعل: أنى الماء المسخن يأني بكسر النون.
قال عباس:
علانية والخيل يغشى متونها ** حميم وآن من دم الجوف ناقع

قوله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع}؟
تكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35-36]، وبين الصحيح من معنى الضريع ما هو، وأنه نبت معروف للعرب، وهو على الحقيقة لا المجاز.
وقد أورد الفخر الرازي سؤالاً والجواب عليه، وهو كيف ينبت الضريع في النار؟ فأجاب بالإحالة على تصور كيف يبقى جسم الكفار حياً في النار، وكذلك الحيات والعقارب في النار.
وهذا وإن كان وجيهاً من حيث منطق القدرة، ولكن القرآن قد صرح بأن النار فيها شجرة الزقوم، وأنها فتنة للظالمين في قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} [الصافات: 62-66]، فأثبت شجرة تخرج في أصل الجحيم، وأثبت لها لازمها وهو طلعها في تلك الصورة البشعة، وأثبت لازم اللازم وهو أكلهم منها حتى ملء البطون.
والحق أن هذا السؤال وجوابه قد أثار المبطلون، ولكن غاية ما في الأمر سلب خاصية الإحراق في النار عن النبات، وليس هذا ببعيد على قدرة من خلق النار وجعل لها الخاصية.
وقد وجد نظيره في الدنيا فتلك نار النمروذ، كانت تحرق الطير في الجو إذا اقترب منها، وعجزوا عن الدنو إليها ليلقوا فيها إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ورموه من بعيد، ومع ذلك حفظه الله منها بقوله تعالى لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا على إبراهيم} [الأنبياء: 69]، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة (8)}:
وهذا هو قسيم القسم الأول في بيان حال أهل الجنة، ولم يعطف بالواو إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما. ويومئذٍ هو يوم الغاشية المتقدم، وهذا يقتضي أن الغاشية عامة في الفريقين. وإن اختلف أحوالها مع مختلف الناس، وعليه فمنهم من تغشاه بهولها، ومنهم من تغشاه بنعيمها. وهي بالنسبة لكل منهما متناهية فيما تغشاهم به، وهي صادقة على الفريقين.
ومعلوم أن الغاشية تطلق على الخير كما تطلق على الشر، بمعنى الشمول والإحاطة التامة. ومن إطلاقها على الخير ما جاء في الحديث: «ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله تعالى فيه إلاَّ حفَّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده» أخرجه مسلم. وبيان ذلك وتحقيقه في حق كلا القسمين كالآتي:
أما الأول منهما: وهو الغاشية في حق أهل النار فقد غشيهم العذاب حساً ومعنى ظاهراً وباطناً أو لا خشوع في ذلة، وهي ناحية نفسية، وهي أثقل أحياناً من الناحية المادية، فقد يختار بعض الناس الموت عنها، ثم مع الذلة العمل والنصب حساً وبدناً، ومع النصب الشديد {تصلى ناراً حامية}، وكان يكفي تصلى ناراً. ولكن إتباعها بوصفها {حامية} فهو زيادة في إبراز عذابهم وزيادة في غشيان العذاب لهم، ثم يسقون من {عين آنية} متناهية في الحرارة فيكونون بين {نار حامية} من الخارج وحميم من الداخل تصهر منه البطون، فهو أتم في الشمول للغاشية لهم من جميع الوجوه.
وفي حق القسم المقابل تعميم كامل وسرور شامل كالآتي، وجوه {ناعمة} مكتملة النعمة، {تعرف في وجوههم نضرة النعيم}.
وهذا في شموله من الناحية المعنوية كمقابله في القسم الأول بدلاً من {خاشعة} في ذلة {ناعمة} في نضرة {لسعيها راضية} الذي سعته في الدنيا، والذي تسعى لتحصيله أو ثوابه {في جنة عالية} بدلاً من عمل ونصب، {لا تسمع فيها لاغية} منزلة أدبية رفيعة حيث لا تسمع فيها كلمة لغو ولا يليق بها، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمونها، كما في قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25-26].
{فِيهَا عين جارية}. ومعلوم أنها عيون وأنهار تجري، كقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45 والدخان: 52]، ومن لوازم العيون والأنهار، هو كمال النعيم، فأشجار ورياحين، فروح وريحان وجنة نعيم. وهذا في التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول، {فيها سرر مرفوعة} وهم عليها متكئون بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء. {وأكواب موضوعة} لإتمام التمتع وكمال الخدمة والرفاهية. حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن وما يتذوقون طعمه من شراب وغيره.
فيكون بذلك قد غشيهم النعمة، كما غشيت أولئك النقمة وتكون الغاشية بمعنى الشاملة، وعلى عمومها للفريقين، وهي صالحة لغة وشرعاً للمعذبين بالعذاب، وللمنعمين بالنعيم. وبالله تعالى التوفيق.
تنبيه:
مجيء {فِيهَا} مرتين: {فِيهَا عين جارية فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة}. للدلالة على قسمي نعيم الجنة. الأول: عيون ونزهة.
والثاني: سرر وسكن.
{أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17) وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت (18) وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت (20) فذكر إِنَّمَا أَنْتَ مذكر (21)}
توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة، لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة وعلى البعث وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية، نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه.
أما الإبل فلعلها أقرب المعلومات للعرب وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها، وملبسهم من أوبارها وجلودها، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة، ولا في أي حيوان آخر، وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} [يس: 71-73].
وكذلك في خصوصها في قوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 5-7].
إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها ألبتة، وكل منها دليل على القدرة بذاته. أما الحبال فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ويشغل تفكيرهم في كل حين، لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها، والمقيل في كهوفها وظلها، والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها. وقد وجه الأنظار إليها أيضًا في موطن آخر في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً والجبال أَوْتَاداً} [النبأ 6-7]، ثوابت، كما بين تعالى أنها، رواسي للأرض أن تميد بكم {والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 32-33]. فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا.
أما السماء ورفعها أي رفعتها في خلقها وبدون عمد ترونها وبدون فطور أو تشقق على تطاول زمنها، فهي أيضًا محط أنظارهم، وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم.
ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث، كما تقدم مراراً.
وتقدم للشيخ عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خلق السماوات والأرض} [البقرة: 164 وآل عمران: 190] الآية. بيان كونها آية. أما الأرض وكيف سطحت، فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله: {لَخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خلق الناس} [غافر: 57].
وقوله: {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سطحت} آية ثابتة، لأن جرمها مع إجماع المفسرين علة تكويرها، فإنها ترى مسطحة أي من النقطة التي هي امتداد البصر، وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها، لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدًّا بعيداً يكاد سطحه يرى مسطحاً من نقطة النظر إليه، وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق، وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم.
وتقد للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنبيه على هذا المعنى، عند الكلام على قوله تعالى: {قُلِ انظروا مَاذا فِي السماوات والأرض} [يونس: 101] الآية. من سورة يونس.
تنبيه:
التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ونصب الجبال، ورفع السماء، وتسطيح الأرض، مع أن الكيفية للحالة، والله تعالى لم يشهد أحدا على شيء من ذلك كله {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خلق السماوات والأرض} [الكهف: 51]. فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه.
والجواب والله تعالى أعلم: هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل، ونصب الجبال إلخ. وإن لم يعلموا الكيف، بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه، فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم، كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها، فيتساءل كيف تم صنعها؟ وقد وقع مثل ذلك وهو الإحالة على الأثر بدلاً من كشف الكنه والكيف، وذلك في سؤال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه، أن يريه كيف يحيي الموتى. فكان الجواب: أن أراه الطيور تطير، بعد أن ذبحها بيده وقطعها، وجعل على كل جبل منها جزءاً. فلم يشاهد كيفية وكنه، وحقيقة الإحياء، وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة. لأن ذلك ليس في استطاعته، ولكن شاهد الثر المترتبة على ذلك، وهي تحركها وطيرانها وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها. مع أنه كان للعزيز موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشزها، ثم يكسوها لحماً. والله تعالى أعلم.
أما قوله تعالى بعد ذلك {فذكر إِنَّمَآ أَنتَ مذكر} فإن مجيء هذا الأمر بالفاء في هذا الموطن، فإنه يشعر بأن النظر الدقيق والفكر الدارس، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الاستدلال على وجود الله وعلى قدرته، كما نطق مؤمن الجاهلية قس بن ساعدة في خطبته المشهورة: ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. فقد ذكر السماء والجبال والأرض.
وكقول زيد بن عمرو بن نفيل: مؤمن الجاهلية المعروف:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

دحاها فلما استوت شدها ** سواء وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له المزن تحمل عذباً زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة ** أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت ** له الريح تصرف حالاً فحالا

فكان على هؤلاء العقلاء أن ينظروا بدقة وتأمل، فيما يحيط بهم عامة. وفي تلك الآيات الكبار خاصة، فيجدون فيها ما يكفيهم.
كما قيل:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

فإذا لم يهدهم تفكيرهم ولم تتجه أنظارهم. فذكرهم إنما أنت مذكر. وهذا عام، أي سواء بالدلالة على القدرة من تلك المصنوعات أو بالتلاوة من آيات الوحي. والعلم عند الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}
فيه الدلالة على أن الإياب هو المرجع.
قال عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب ** وغائب الموت لا يؤوب

كما في قوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، وهو على الحقيقة كما في صريح منطوق قوله تعالى: {ثُمَّ إلى مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55]، وقوله: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164].
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم} الإتيان بثم للإشعار ما بين إيابهم وبدء حسابهم، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يوماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا}، بتقدم حرف التأكيد، وإسناد ذلك لله تعالى، وبحرف على مما يؤكد ذلك لا محالة، وأنه بأدق ما يكون، وعلى الصغيرة والكبيرة كما في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284].
ومن الواضح مجيء {إِنَّ إِلَيْنَآ إيابهم ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم}، بعد قوله تعالى: {فذكر إِنَّمَآ أَنتَ مذكر لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر إِلاَّ مَن تولى وكفر فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 21-24] تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخويف لأولئك الذين تولوا وأعرضوا، ثم إن الحساب في اليوم الآخر ليس خاصاً بهؤلاء، بل هو عام بجميع الخلائق. ولكن إسناده لله تعالى مما يدل على المعاني المتقدمة.
نسال الله العفو والسلامة. اهـ.